أ.د عامر حسن فياض
بقدر ماتبدو اطروحة الكاتب الامريكي (صموئيل هنتغتون 1927-2008) عن تصادم الحضارات
لامعه وبراقة ، فهي ليست اقل خداعاً من غيرها لانها ليست سوى النسخة الثقافية لإطروحة
(تهديد الجنوب)، فالاختلافات بين الحضارات ظاهرة طبيعية وهي تدخل في دائرة الاختلاف
لا الخلاف وهي ثمرة قرون من التاريخ ولن تختفي في الوقت القريب.
ان التحليل الذي ينحاز لأفكار (هنتغتون) بهذا الشأن يتماشى مع الاهداف الاستراتيجية
للغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية بعد نهاية الحرب الباردة تلك الاهداف الرامية
لبقاء الاخيرة على رأس (العالم الغربي الحر) وتوسيعه تحت هيمنتها ليمتد الى اوربا الشرقية
حتى روسيا مع المحافظة على امريكا اللاتينية لمنع ظهور اية قوة معارضة في اسيا والشرق
الاوسط. وتمتاز هذه الإطروحة بأنها تقدم للبعض قراءة موحدة لجميع الصراعات الجارية
في عالمنا المعاصر وخصوصاً بالنسبة لاولئك الذين فقدوا البوصلة التي كانت تقدمها لهم
الحرب الباردة والاختلافات العقائدية والايديولوجية، لذلك فهي بالنسبة لهم بمثابة اطروحة
(النعمة المفاجئة) التي زودتهم من جديد بتبرير شامل يستطيعون ان يفسروا من خلالها الصراعات
والحروب الاهلية في دول اوربا القديمة المتعددة الجنسيات وفي الشرق الاوسط وبحر الصين.
بيد ان اطروحة تصادم الحضارات وبمجرد نشرها واجهت الكثير من الانتقادات وسجلت
عليها الكثير من المآخذ ، فالحروب الحقيقية وليست الخيالية جرت عادة في داخل الكتلة
الحضارية الواحدة وليست بين كتلتين حضاريتين متصارعتين، والمسلمون لم يهرعوا لنجدة
العراق ولا البوسنة ولا اذربيجان. اما اعتبار مبيعات السلاح الصيني للسعودية أو ايران
علامة على وجود ارتباط كونفوشيوسي- اسلامي، فهذا أمر لايمكن اثبات صحته امام التجربة
والواقع ، فهل يمكن الحديث مثلا عن ترابط غربي – اسلامي لان الولايات المتحدة الامريكية
واوربا يبيعان السلاح الى بلدان اسلامية في الشرق الاوسط ؟
بالطبع لا، فبيع الاسلحة وفي جميع الاحوال ليس إلا من اجل المحافظة على مجمعات
صناعة اسلحة جديدة تسمح للمنتجين باستمرار الحصول على العملات الصعبة، وعليه فان الاسباب
هي ، في الحقيقة، اقتصادية (صناعية – تجارية – مالية) واستراتيجية (عسكرية – سياسية)
، فالمبيعات لم تكن باسم النضال الحضاري ، لانه لو صح ذلك لكان تقديم الاسلحة يتم بطريقة
مجانية او رمزية، وهو أمر ابعد مايكون عليه الحال اليوم. واذا كان الصرب والكروات لايدينون
بنفس الدين فهل يمكن القول بأنهم لاينتمون الى نفس الحضارة، فهم سلاف ولهم نفس اللغة
وعاشوا في القرى نفسها زمناً طويلاً وتعددت
بينهم الزيجات.
ولكن الحروب الاهلية والدولية في داخل الحضارة الواحدة واقتتال الاشقاء داخل
الدين الواحد وقائع تنسف تحليل هنتغتون من اساسه. وبخصوص الاسلام فإنه يقوم على كتل
ثقافية فرعية متنوعة وربما مختلفة، كذلك فأن العالم الكونفوشيوسي ليس موجوداً بالكيفية
التي يجري تصويره بها أي ككتلة واحدة. كما يمكن دحض الجانب المتعلق من هذه الاطروحة
بالحضارة الافريقية بدلالة الحروب الاهلية المشتعلة فيها والتي تجعل من الاثنية/ العرقية
العنصر المكون لإفريقيا والاكبر من اي تضامن حضاري. وكذلك الامر بالنسبة لامريكا اللاتينية
حيث هشاشة ووهن التضامن الحضاري اللاتيني الامريكي، فقط المشاعر المعادية للولايات
المتحدة الامريكية كانت هي الشي الوحيد الذي استطاع ان يوحد الشعوب في هذه القارة في
عقدي الستينات والسبعينات بل إن هذا الطلاء البراق لم يستطع في وقته إخفاء التنافس
على قيادة القارة بين البرازيل والارجنتين وتشيلي وبين بوليفيا وتشيلي وبين البيرو
والاكوادور. وتتميز أطروحة هنتغتون بطبيعتها الجازمة والقاطعة حيث تفترض بأن الحضارات
ستتصادم حتماً وبالضرورة، وان هذا التصادم لن تكون له نهاية، بينما على العكس من ذلك
يمكننا ان نتصور بانه حتى الحرب قد تقوم بين حضارتين بسبب اختلافهما فإنها يمكن ان
تتوقف في أية لحظة عندما تقرران وقفها من اجل مصالحهما المشتركة.
وفي الجانب المقابل لهذه الاطروحة تبرر حقائق الجغرافيا السياسية المعاصرة اليوم
مفهوم صراع الهويات المستند لا على بناءات
نظرية بل على ملاحظة الصراعات الحقيقية التي تستخلص منها النتائج العامة حيث تصبح الهوية
الجماعية لجماعة بشرية ما هي الشي الثابت الوحيد في مواجهة إفرازات الحداثة المدمرة
والبؤس الاقتصادي والتفكيك السياسي. فإذا أحست جماعة بشرية ما بأن هويتها مهددة بشكل
قد يؤدي الى زوالها فستتكون هنا قاعدة صراع الهويات الذي يستند في اغلب الاحيان الى
الخوف من الزوال. فولادة صراع الهويات تصاحبها افكار واوهام يملؤها القلق والخوف من
التصفية، لان الافراد لايشعرون بأنهم مهددون بفقدان الارض فقط بل ومهددون ايضا بفقدان
حقهم في العيش كجماعة لها خصوصيتها. ان صراع الهويات ليس صراعاً متعلقاً بأرض او سلطة
او مصادر ثروة بل هو أولا وقبل كل شيء صراع مضمونه ومصدرة الإدراك الجماعي لتهديد يطال
الوجود ويهدد استمرار الحياة إنها مشاعر الضحية التي تسيطر على طريقة التفكير والتحليل
الجمعي لدى جماعة بشرية تحس بأنها ضحية وهذا ما تتأسس عليه خصوصية ازمة الهويات سواء
كانت طائفية او عرقية او قومية او خليطاً من الازمات الثلاث معاً ، وعليه فإن أمام
الحضارات طريق مفتوح هو طريق الحوار وليس الصراع ولا التصادم.
ما هو تقيمك للخبر :